فصل: فَصْلٌ فِي حَقِيقَةِ الْجِزْيَةِ وَالْمُرَادِ مِنْهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَأَمَّا كَوْنُهُمْ لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا حَرَّمَ فِي شَرْعِنَا، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْنَا إِلَّا إِذَا أَسْلَمُوا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ لَا فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَاصِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا حَرَّمَ فِي شَرْعِهِمُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَنَسَخَ بَعْضَهُ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ فِي الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَا يَلْتَزِمُونَهُ كُلَّهُ بِالْعَمَلِ، كَاتِّبَاعِهِمْ عَادَاتِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقِتَالِ وَالنَّفْيِ وَمُفَادَاةِ الْأَسْرَى، الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ لَهُمْ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [2: 85] وَاسْتِحْلَالِهِمْ لِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي النَّصَارَى أَنَّهُمُ اسْتَبَاحُوا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِمَّا لَمْ يَنْسَخْهُ الْإِنْجِيلُ، وَاتَّبَعُوا مُقَدَّسَهُمْ بُولُسَ فِي إِبَاحَةِ جَمِيعِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِيهَا، إِلَّا مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ إِذَا قِيلَ لِلْمَسِيحِيِّ: إِنَّهُ مَذْبُوحٌ لِوَثَنٍ فَيُرَاعِي ضَمِيرَ الْقَائِلِ أَمَامَهُ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ طَاهِرٌ لِلطَّاهِرِينَ، وَأَنَّ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ لَا يُنَجِّسُ الْفَمَ، وَإِنَّمَا يُنَجِّسُهُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ. وَهَذَا بَعْضُ مَا يُقَالُ فِي النَّصَارَى فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَأَمَّا نَصَارَى هَذَا الزَّمَانِ، وَلاسيما أَهْلُ أُورُبَّةَ، فَإِنَّهُمْ أَبْعَدُ خَلْقِ اللهِ عَنْ كُلِّ مَا فِي أَنَاجِيلِهِمْ مِنَ الزُّهْدِ وَالسِّلْمِ وَالتَّقَشُّفِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مِرَارًا. وَلَكِنَّهُمْ بَعْدَ الْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ، وَالطُّغْيَانِ فِي الْعُدْوَانِ، وَالْإِلْحَادِ في الدَّيَّانِ، طَفِقُوا يَبْحَثُونَ فِي حَقِيقَةِ الْأَدْيَانِ، فَتَظْهَرُ لَهُمْ أَنْوَارُ الْإِسْلَامِ، وَالْمَرْجُوُّ أَنْ يَهْتَدُوا بِهِ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ.
اخْتَارَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَضَعَّفَ الثَّانِيَ، فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ: الْمُرَادُ بِهِ أَيْ: مَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِالْوَحْيِ مَتْلُوًّا وَغَيْرَ مَتْلُوٍّ، فَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ: رَسُولُهُمُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ فَإِنَّهُمْ بَدَّلُوا شَرِيعَتَهُ، وَأَحَلُّوا وَحَرَّمُوا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمُ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ لَا يَتَّبِعُونَ شَرِيعَتَنَا وَلَا شَرِيعَتَهُمْ، وَمَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ سَبَبٌ لِقِتَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيفُ بَعْدَ النَّسْخِ لَيْسَ لَهُ عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. اهـ.
وَاخْتَارَ السَّيِّدُ مُحَمَّد صِدِّيق حَسَن الثَّانِيَ فَقَالَ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ: وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِمَّا ثَبَتَ فِي كُتُبِهِمْ، فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ فَأَذَابُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فَأَحَلُّوهَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ: يَعْنِي لَا يُصَدِّقُونَ بِتَوْحِيدِ اللهِ، وَمَا حَرَّمَ اللهُ مِنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا مَا حَرَّمَ رَسُولُهُ فِي السُّنَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: لَا يَعْمَلُونَ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، بَلْ حَرَّفُوهُمَا وَأَتَوْا بِأَحْكَامٍ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَلَّدُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ فَاتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ. اهـ.
وَأَمَّا كَوْنُهُمْ لَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ، فَمَعْنَاهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِيمَا قَبْلَهُ أَنَّهُمْ لَا يَدِينُونَ اللهَ بِدِينِهِ الْحَقِّ الْكَامِلِ الْأَخِيرِ، الْمُكَمِّلِ وَالْمُبَيِّنِ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَالنَّاسِخِ لِمَا لَا يَصْلُحُ لِلْبَشَرِ مِنْهُ فِيمَا بَعْدُ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ. يُقَالُ: دَانَ دِينَ الْإِسْلَامِ أَوْ غَيْرَهُ وَدَانَ بِهِ. وَهُوَ الْأَصْلُ، وَمَعْنَاهُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الدِّينَ الَّذِي يَتَقَلَّدُهُ كُلٌّ مِنْهُمْ إِنَّمَا هُوَ دِينٌ تَقْلِيدِيٌّ وَضَعَهُ لَهُمْ أَحْبَارُهُمْ وَأَسَاقِفَتُهُمْ بِآرَائِهِمُ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَأَهْوَائِهِمُ الْمَذْهَبِيَّةِ، لَا دِينُ اللهِ الْحَقُّ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. ذَلِكَ بِأَنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَحْفَظُوا مَا اسْتُحْفِظُوا مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى، وَكَانَ يَحْكُمُ بِهَا هُوَ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَيُخَالِفُهُمُ الْفَاسِقُونَ النَّاقِضُونَ لِعَهْدِهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ مَوْتِهِ، إِلَى أَنْ عَاقَبَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِتَسْلِيطِ الْبَابِلِيِّينَ عَلَيْهِمْ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَأَحْرَقُوا الْهَيْكَلَ وَمَا فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْفَارِ، وَسَبَقُوا بَقِيَّةَ السَّيْفِ مِنْهُمْ، وَأَجْلَوْهُمْ عَنْ وَطَنِهِمْ إِلَى أَرْضِ مُسْتَعْبِدِيهِمْ، فَدَانُوا لِشَرِيعَةٍ غَيْرِ شَرِيعَتِهِمْ، وَلَمَّا أَعْتَقُوهُمْ مِنَ الرِّقِّ وَأَعَادُوهُمْ إِلَى تِلْكَ الْأَرْضِ، وَكَانُوا قَدْ فَقَدُوا نَصَّ التَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا حَفِظُوا بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ، كَتَبُوا مَا حَفِظُوا مِنْ شَرِيعَةِ الرَّبِّ، مَمْزُوجًا بِمَا دَانُوا مِنْ شَرِيعَةِ مَلِكِ بَابِلَ كَمَا أَمَرَ كَاهِنُهُمْ عِزْرَا (عُزَيْرًا) ثُمَّ إِنَّهُمْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا، وَلَمْ يُقِيمُوهَا كَمَا أُمِرُوا.
وَكَذَلِكَ النَّصَارَى لَمْ يَحْفَظُوا كُلَّ مَا بَلَّغَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْوَصَايَا وَالْأَحْكَامِ الْقَلِيلَةِ النَّاسِخَةِ لِبَعْضِ تَشْدِيدَاتِ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ دِينُ اللهِ الْحَقُّ، بَلْ كَتَبَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ تَوَارِيخَ لَهُ، وَأَوْدَعَهَا كُلُّ كَاتِبٍ مِنْهُمْ مَا عَرَفَهُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِهِ، فَجَاءَتِ الْمَجَامِعُ الرَّسْمِيَّةُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ قُرُونٍ، فَاعْتَمَدَتْ أَرْبَعَةَ أَنَاجِيلَ مِنْ زُهَاءِ سَبْعِينَ إِنْجِيلًا رَفَضَتْهَا وَسَمَّتْهَا [أَبُو كَرَيفٍ] أَيْ غَيْرُ قَانُونِيَّةٍ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْنَا إِنْجِيلُ الْقِدِّيسِ بَرْنَابَا مِنْهَا، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ وَرُسُلِهِ لِهِدَايَةِ النَّاسِ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ الْعَالِيَةِ مَا يَفُوقُ مَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْقَانُونِيَّةِ.
ثُمَّ إِنَّهُمْ نَقَضُوا شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَخَذُوا بِتَعَالِيمِ بُولُسَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ فَيْلَسُوفٌ يَهُودِيٌّ تَنَصَّرَ بَعْدَ الْمَسِيحِ، وَقَبِلَ تَنَصُّرَهُ الْحَوَارِيُّونَ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمُ (الرُّسُلَ) بِشَفَاعَةِ بَرْنَابَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَدُوًّا لَهُمْ، مَعَ أَنَّهُمْ يَنْقِلُونَ عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ: مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ النَّامُوسَ، وَإِنَّمَا جِئْتُ لِأُتَمِّمَ وَالنَّامُوسُ: هُوَ شَرِيعَةُ مُوسَى، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [3: 50- 51] وَإِنَّمَا قَالَ: لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ أَيِ: الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهَا كَانَ فُقِدَ بِإِحْرَاقِ الْبَابِلِيِّينَ لِنُسْخَةِ مُوسَى الَّتِي كَتَبَهَا بِيَدِهِ، كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا وَتَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ مُفَصَّلًا. وَلَمْ يَكْتَفِ النَّصَارَى بِهَذَا بَلْ وَضَعَ لَهُمْ أَحْبَارُ رُومِيَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَسَاقِفَتِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ شَرَائِعَ كَثِيرَةً فِي الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ يُخَالِفُ فِيهَا كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَذْهَبَ الْآخَرِ.
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِيمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا عَنْ أَهْلِ الْمِلَّتَيْنِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا أَخَذَهُ عَلَى أُمَّةِ مُوسَى مِنَ الْمِيثَاقِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [5: 13 و14] وَفِي الْآيَتَيْنِ مِنَ الْحَقَائِقِ الَّتِي كَانَتْ مَجْهُولَةً، وَمِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ عَنِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، مَا يُعَدُّ مِنْ حُجَجِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ لَيْسَ لِلنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ إِلَّا تَبْلِيغُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ نَسِيَ حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا ذَكَّرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِالْبَعْضِ الْآخَرِ كُلِّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ عِبَادَاتُهُمْ وَمَا يُسَمَّى الطُّقُوسَ وَالنَّامُوسَ الْأَدَبِيَّ هُوَ مِنْ وَضْعِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ (31)} وَإِنَّمَا كَانَ دِينُ الْحَقِّ عِنْدَهُمْ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلَوْ أَنَّهُمْ حَفِظُوهُ وَأَقَامُوهُ كَمَا أُنْزِلَ أَوْ دَانُوا بِمَا حَفِظُوا مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ لَهَدَاهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ الْمُصْلِحِ الْأَعْظَمِ الَّذِي بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى مُكَمِّلًا لِدِينِهِ، وَلَا تَزَالُ بِشَارَاتُ أَنْبِيَائِهِمْ بِهِ مَحْفُوظَةً فِيمَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
فَقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنَ الْمُتَّصِفِينَ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ جِنْسُ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي يَشْمَلُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَزَبُورَ دَاوُدَ وَغَيْرَهَا، وَلَكِنْ لُقِّبَ {أَهْلُ الْكِتَابِ} و{الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ عَامًّا خُصَّ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُخَالِطِينَ وَمُجَاوِرِينَ لِلْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَعْرُوفِينَ عِنْدَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [6: 156] وَفِي نُصُوصِ الْقُرْآنِ الصَّرِيحَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْسَلَ رُسُلًا فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ يَأْمُرُونَهُمْ بِعِبَادَتِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَبِاجْتِنَابِ الطَّاغُوتِ، وَيُنْذِرُونَهُمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَصَّهُ عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فِي كِتَابِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْصُصْ عَلَيْهِ، وَمِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ أُولُو الْحَضَارَةِ مِنْهُمْ كَالصِّينِيِّينَ وَالْهُنُودِ وَالْفُرْسِ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالْيُونَانِ قَدْ كَتَبُوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ مَا أُوحِيَ إِلَى رُسُلِهِمْ فَضَاعَ بِطُولِ الْأَمَدِ أَوْ خُلِطَ بِغَيْرِهِ وَلَمْ يَعُدْ أَصْلُهُ مَعْرُوفًا، وَإِذَا كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَدْ كَانَ مِنْ أُمِّ كُتُبِهِمْ مَا عَلِمْنَا مِنْ ضَيَاعِ بَعْضِهَا وَانْقِطَاعِ سَنَدِ مَا بَقِيَ مِنْهَا، وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ مَا سَبَقَهَا مِنَ الْكُتُبِ أَضْيَعَ- وَالْعَهْدُ بَعِيدٌ أَيُّ بِعِيدٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسَ مِنْهُمْ فِي كِتَابِهِ لِاتِّصَالِ بِلَادِهِمْ بِبِلَادِ الْعَرَبِ، فَلَمْ يُدْخِلْهُمْ فِي عُمُومِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا نَظَمَهُمْ فِي سِلْكِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَقَبَ {الْمُشْرِكِينَ} خَاصًّا بِوَثَنِيِّ الْعَرَبِ، وَلَقَبَ {أَهْلِ الْكِتَابِ} خَاصًّا بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الشِّرْكُ، وَالتَّارِيخُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَا أَهْلَ كِتَابٍ، أَمَّا الصَّابِئُونَ فَقَدْ ذُكِرُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2: 62] وَآيَةِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ [5: 69] وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَقَدْ ذُكِرُوا مَعَ أُولَئِكَ كُلِّهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [22: 17] فَقَدْ جَعَلَ الْمَجُوسَ قِسْمًا مُسْتَقِلًّا، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِمُعَامَلَتِهِمْ كَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي انْتِهَاءِ قِتَالِهِمْ بِالْجِزْيَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَإِنْ لَمْ يُحْفَظْ مِنْهُ مَا يُصَحِّحُ إِطْلَاقَ اللَّقَبِ عَلَيْهِمْ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَجَزَمَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَالصَّابِئُونَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمَا آنِفًا.
{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} هَذِهِ غَايَةٌ لِلْأَمْرِ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَنْتَهِي بِهَا إِذَا كَانَ الْغَلَبُ لَنَا، أَيْ قَاتِلُوا مَنْ ذُكِرَ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِتَالِ كَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْكُمْ أَوْ عَلَى بِلَادِكُمْ، أَوِ اضْطِهَادِكُمْ وَفِتْنَتِكُمْ عَنْ دِينِكُمْ أَوْ تَهْدِيدِ أَمْنِكُمْ وَسَلَامَتِكُمْ. كَمَا فَعَلَ الرُّومُ، فَكَانَ سَبَبًا لِغَزْوَةِ تَبُوكَ، حَتَّى تَأْمَنُوا عُدْوَانَهُمْ بِإِعْطَائِكُمُ الْجِزْيَةَ فِي الْحَالَيْنِ اللَّذَيْنِ قُيِّدَتْ بِهِمَا. فَالْقَيْدُ الْأَوَّلُ لَهُمْ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ صَادِرَةً {عَنْ يَدٍ} أَيْ قُدْرَةٍ وَسَعَةٍ، فَلَا يُظْلَمُونَ وَيُرْهَقُونَ. وَالثَّانِي لَكُمْ، وَهُوَ الصَّغَارُ الْمُرَادُ بِهِ خَضْدُ شَوْكَتِهِمْ، وَالْخُضُوعُ لِسِيَادَتِكُمْ وَحُكْمِكُمْ؛ وَبِهَذَا يَكُونُ تَيْسِيرُ السَّبِيلِ لِاهْتِدَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ بِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ عَدْلِكُمْ وَهِدَايَتِكُمْ وَفَضَائِلِكُمُ الَّتِي يَرَوْنَكُمْ أَقْرَبَ بِهَا إِلَى هِدَايَةِ أَنْبِيَائِهِمْ مِنْهُمْ. فَإِنْ أَسْلَمُوا عَمَّ الْهُدَى وَالْعَدْلُ وَالِاتِّحَادُ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا كَانَ الِاتِّحَادُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْعَدْلِ، وَلَمْ يَكُونُوا حَائِلًا دُونَهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَالْقِتَالُ لِمَا دُوْنَ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا وَجُوبُهُ عَيْنِيًّا أَوْلَى بِأَنْ يَنْتَهِيَ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، وَمَتَى أَعْطَوُا الْجِزْيَةَ وَجَبَ تَأْمِينُهُمْ وَحِمَايَتُهُمْ، وَالدِّفَاعُ عَنْهُمْ وَحُرِّيَّتُهُمْ فِي دِينِهِمْ بِالشُّرُوطِ الَّتِي تُعْقَدُ بِهَا الْجِزْيَةُ، وَمُعَامَلَتُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ كَالْمُسْلِمِينَ، وَيَحْرُمُ ظُلْمُهُمْ وَإِرْهَاقُهُمْ بِتَكْلِيفِهِمْ مَا لَا يُطِيقُونَ كَالْمُسْلِمِينَ، وَيُسَمَّوْنَ أَهْلَ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْحُقُوقِ تَكُونُ لَهُمْ بِمُقْتَضَى ذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا الَّذِينَ يُعْقَدُ الصُّلْحُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِعَهْدٍ وَمِيثَاقٍ يَعْتَرِفُ بِهِ كُلٌّ مِنَّا وَمِنْهُمْ بِاسْتِقْلَالِ الْآخَرِ فَيُسَمَّوْنَ بِأَهْلِ الْعَهْدِ وَالْمُعَاهَدِينَ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نَبْسُطَ الْقَوْلَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْجِزْيَةِ لِتَقْصِيرِ الْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِهَا فَنَقُولُ:

.فَصْلٌ فِي حَقِيقَةِ الْجِزْيَةِ وَالْمُرَادِ مِنْهَا:

الْجِزْيَةُ ضَرْبٌ مِنَ الْخُرُوجِ يُضْرَبُ عَلَى الْأَشْخَاصِ لَا عَلَى الْأَرْضِ، جَمْعُهَا جِزًى كَسِدْرَةٍ وَسِدَرٍ، وَالْيَدُ السَّعَةُ وَالْمِلْكُ أَوِ الْقُدْرَةُ وَالتَّمَكُّنُ، وَالصَّغَارُ (بِالْفَتْحِ) وَالصِّغَرُ (كَعِنَبٍ) وَهُوَ ضِدُّ الْكِبَرِ، وَيَكُونُ فِي الْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْخُضُوعُ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَسِيَادَتِهِ الَّذِي تَصْغُرُ بِهِ أَنْفُسُهُمْ لَدَيْهِمْ بِفَقْدِهِمُ الْمِلْكَ، وَعَجْزِهِمْ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْحُكْمِ. قَالَ الرَّاغِبُ: الصَّاغِرُ الرَّاضِي بِالْمَنْزِلَةِ الدَّنِيَّةِ، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الْأُمِّ: وَسَمِعْتُ عَدَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: الصَّغَارُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ. اهـ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ فِي الْآيَةِ أَقْوَالًا يَأْبَاهَا عَدْلُ الْإِسْلَامِ وَرَحْمَتُهُ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ اللُّغَوِيِّينَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ لَفْظَ الْجِزْيَةِ عَرَبِيٌّ مَحْضٌ مِنْ مَادَّةِ الْجَزَاءِ. وَهَلْ هِيَ جَزَاءُ حَقْنِ الدَّمِ، أَوْ جَزَاءُ الْحِمَايَةِ لَهُمْ وَالدِّفَاعِ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفِهِمُ التَّجَنُّدَ لِلْقِتَالِ مَعَنَا، أَوْ جَزَاءُ إِعْطَاءِ الذِّمِّيِّ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ وَمُسَاوَاتِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ فِي حُرِّيَّةِ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ وَالدِّينِ؟ وُجُوهٌ أَضْعَفُهَا أَوَّلُهَا وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ثَانِيهَا.
قَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَالْجِزْيَةُ خَرَاجُ الْأَرْضِ وَجِزْيَةُ الذِّمِّيِّ مِنْهُ. الْجَوْهَرِيُّ وَالْجِزْيَةُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْجَمْعُ الْجِزَى مِثْلَ لِحْيَةٍ وَلِحًى، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْجِزْيَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَالِ الَّذِي يَعْقِدُ الْكِتَابِيُّ عَلَيْهِ الذِّمَّةَ، وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنَ الْجَزَاءِ كَأَنَّهَا جَزَتْ عَنْ قَتْلِهِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ أَرَادَ أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا أَسْلَمَ وَقَدْ مَرَّ بَعْضُ الْحَوْلِ لَمْ يُطَالَبْ مِنَ الْجِزْيَةِ بِحِصَّةِ مَا مَضَى مِنَ السَّنَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا أَسْلَمَ وَكَانَ فِي يَدِهِ أَرْضٌ صُولِحَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ تُوضَعُ عَنْ رَقَبَتِهِ الْجِزْيَةُ، وَعَنْ أَرْضِهِ الْخَرَاجُ إِلَخْ.
وَقَدْ حَقَّقَ شَمْسُ الْعُلَمَاءِ الشَّيْخُ شِبْلِي النُّعْمَانِيُّ الْهِنْدِيُّ (رَحِمَهُ اللهُ) فِي رِسَالَةٍ لَهُ نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَنَارِ، أَنَّ لَفْظَ الْجِزْيَةِ مُعَرَّبٌ وَأَصْلُهُ فَارِسِيٌّ (كَزَيْتٍ) وَأَنَّ مَعْنَاهَا الْخَرَاجُ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْحَرْبِ، وَأَوْرَدَ عَلَى الْأَوَّلِ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ مِنَ الشِّعْرِ الْفَارِسِيِّ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ احْتِمَالَيْنِ. (أَحَدُهُمَا) أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وُجِدَ فِي اللُّغَتَيْنِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مِمَّا اتَّفَقَتَا فِيهِ، وَتَوَافُقُ اللُّغَاتِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تُوجَدُ مَعَانِيهَا عِنْدَ الْأُمَمِ النَّاطِقَةِ بِهَا شَائِعٌ مَعْرُوفٌ (وَالثَّانِي) أَنَّ الْكَلِمَةَ أَصِيلَةٌ في الْفَارِسِيَّةِ دَخِيلَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ كَأَمْثَالِهَا مِمَّا أَخَذَهُ الْعَرَبُ مِنْ مُجَاوِرِيهِمْ مِنَ الْفُرْسِ وَهَضَمَتْهَا لُغَتُهُمْ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ، مِنْهَا مَا لَا يَدُلُّ عَلَى الدَّعْوَى دِلَالَةً صَحِيحَةً كَثُبُوتِ أَخْذِ الْعَرَبِ عَنِ الْعَجَمِ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ كَالْكُوزِ وَالْإِبْرِيقِ وَالطَّسْتِ، وَكَزَعْمِهِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُمْ وَضْعُ أَلْفَاظٍ لِلْمَعَانِي الْخَاصَّةِ بِالْمَدَنِيَّةِ وَالْعُمْرَانِ كَالْوَزِيرِ وَالصَّاحِبِ وَالْعَامِلِ وَالتَّوْقِيعِ، لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبُؤْسِ وَعَدَمِ الِاسْتِيلَاءِ وَالِاسْتِعْبَادِ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَالْأَوَّلُ: حَقٌّ غَيْرُ دَالٍّ، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ فَعَدَمُ دِلَالَتِهِ عَلَى ذِكْرٍ أَوْلَى. وَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تُجَاوِرُ أُمَّةً وَتُخَالِطُهَا تَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ لُغَتِهَا فَتَعْتَادُهُ فَيَدْخُلُ فِي لُغَتِهَا وَإِنْ كَانَ عِنْدَهَا مُرَادِفٌ لَهُ، وَهَكَذَا مَا وَقَعَ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَمَعْرِفَةُ السَّابِقِ لِبَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَبِهَةِ مِنَ الْأُمَّتَيْنِ فِيهِ عُسْرٌ شَدِيدٌ، وَقَدْ سَبَقَ لِلْعَرَبِ مَدَنِيَّاتٌ قَدِيمَةٌ فِي جَزِيرَتِهِمْ أَيْضًا مِنْ خَصَائِصِ الْمِلْكِيَّةِ، كُفُوا مُؤْنَةَ وَضْعِ لَفْظٍ بِإِزَائِهَا مُحْتَمِلٍ غَيْرِ حَقِيقٍ. وَأَقْوَى مِنْهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ مُفِيدٌ سَوَاءً كَانَ اللَّفْظُ أَصِيلًا فِي الْعَرَبِيَّةِ أَوْ مُعَبِّرًا دَخِيلًا، لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنَ اللَّفْظِ بِدِلَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَنَنْقُلُهُ بِنَصِّهِ وَهُوَ: (وَمِنْهَا) أَنَّ الْحِيرَةَ- وَكَانَتْ مَنَازِلَ آلِ نُعْمَانَ- كَانَتْ تَدِينُ لِلْعَجَمِ وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمُ الْإِتَاوَةَ وَالْخَرَاجَ، وَلَمَّا كَانَ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ هُوَ الَّذِي سَنَّ الْجِزْيَةَ أَوَّلًا كَمَا نُبَيِّنُهُ فِيمَا سَيَأْتِي، يَغْلُبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْعَرَبَ أَوَّلَ مَا عَرَفُوا الْجِزْيَةَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ وَتَعَاوَرُوا اللُّغَةَ الْعَجَمِيَّةَ بِعَيْنِهَا، وَمِنْ مُسَاعَدَةِ الْجِدِّ أَنَّ اللَّفْظَ كَانَتْ زِنَتُهُ زِنَةَ الْعَرَبِيِّ فَلَمْ يَحْتَاجُوا فِي تَعْرِيبِهِ إِلَى كَبِيرِ مُؤْنَةٍ بَعْدَ مَا أُبْدِلَ كَافُهَا جِيمًا صَارَتْ كَأَنَّهَا عَرَبِيُّ الْأَصْلِ وَالنِّجَارِ. وَمَعَ هَذِهِ كُلِّهَا فَإِنَّ هَذَا الْبَحْثَ لَا يُهِمُّنَا وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَبِيرُ غَرَضٍ، فَإِنَّ إِثْبَاتَ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْكَشْفِ عَنْ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ، فَنَحْنُ فِي غِنًى عَنْ إِطَالَةِ الْكَلَامِ وَإِسْهَابِهِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَبْحَاثِ.